تأمل معي أخرى كيف مد الله البحار ، وخلطها
، وجعل مع ذلك بينه حاجزاً ومكاناً محفوظاً ، فلا تبغي محتويات بحرٍ على
بحر ، ولا خصائص بحرٍ على آخر عندما يلتقيان ، (إن في ذلك لآياتٍ لأولي
النهى) في <إيران> أنهار عندما تلتقي بمياه البحر ترجع مياهها عائدة
إلى مجاريها التي جاءت منها
، ونهر<الأمازون> يجعل مياه المحيط
الأطلسي عذبة لمئات الكيلو مترات من مصبه فيه فلا يختلط بمياه المحيط
الأطلسي ، وتلتقي مياه المحيط الأطلسي بمياه البحر الأبيض فتبقى مياه البحر
الأبيض أسفل لثقلها ولكثرة ملحها وتعلو مياه المحيط لخفتها ، وكل بمقدرة ،
وكذلك لا تختلط مياه البحر الأسود بمياه البحر الأبيض عندما تلتقي بل تشكل
مجريين متلاصقين فوق بعضهما البعض ، فمياه الأسود تجري في الأعلى نحو مياه
البحر الأبيض لأنها أخف ، ومياه البحر الأبيض تجري في الأسفل لأنها أثقل
فتجري نحو البحر الأسود ، فتبارك الذي (مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح
أجاج وجعل بينهما برزخاً وحجراً محجورا لا إله إلا هو سبحانه وتعالى عما
يشركون ) ، عجائب البحر أعظم من أن يحصيها أحد إلا الله ، كشف علماء البحار
من النصف الثاني من القرن العشرين أن في البحار أمواجاً عاتية دهماء مظلمة
حالكة ، إذا أخرج المرء يده لم يكد يراها فعلى عمق ستين متراً عن سطح
البحر يصبح كل شيء مظلماً في البحار ، بمعنى أننا لا نستطيع رؤية الأشياء
في أعماق تبعد ستين متراً عن سطح البحر ، ولذلك زود الله الأحياء البحرية
التي تعيش في أعماق البحار اللجية بنور تولده لنفسها ومن لم يجعل الله له
نوراً في تلك الظلمات فما له من نور ، نسي هؤلاء المكتشفون أن الله ذكر تلك
الظلمات في قوله قبل أن يخلقوا وآباؤهم وأجدادهم (أو كظلمات في بحر لجي
يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم
يكد يراها ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور) ، تُرْجِمَ معنى هذه
الآية لعالم من علماء البحار أفنى عمره في ذلك وظن أنه على شيء وأنه اكتشف
شيئا وجاء بشيء فيه إبداع فقال في دهشة بعد ترجمة الآية : إن هذا ليس من
عند محمد الذي عاش حياته في الصحراء ، ولم يعاين البحر ولججه وظلماته
وأمواجه وشعبه ، إن هذا من عند عليم خبير ثم شهد شهادة الحق ودخل في دين
الله ،
نعم لا يملك إلا ذلك ، من واصف الظلمات في قعر البحار سوى الله
العليم الباري ، سبحانه ملكاً على العرش استوى وحوى جميع المُلْكِ والسلطان
، لا إله إلا الله كيف تعمى العيون وتعمى القلوب عن آيات الله ، أإله مع
الله ، تعالى الله سأل رجل أحد السلف عن الله ، قال له :ألم تركب البحر؟ ،
قال : بلى ، قال فهل حدث لك مرة أن هاجت بكم الريح عاصفة قال نعم ، قال
وانقطع أملك من الملاحين ووسائل النجاة ، قال نعم ، قال فهل خطر ببالك
وانقدح في نفسك بأن هناك من يستطيع أن ينجيك إن شاء ، قال نعم ، قال فذاك
هو الله لا إله إلا هو وسع كل شيء علماً ، (هو الذي يسيركم في البر والبحر
حتى إذا كنتم في الفلك وجرينا بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف
وجاءهم الموت من كل مكان وظنوا أنه أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن
أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض
بغير الحق يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا ثم
إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون) ومن عجائب البحر التي تدل على
إدراكه وعبوديته لله جل وعلا أنه يعظم عليه أن يرى ابن آدم يعصي الله عز
وجل مع حلم الله عليه فيتألم البحر لذلك ويتمنى هلاك عصاة بني آدم بل
ويستأذن ربه في ذلك ، جاء في مسند الإمام أحمد فيما روي عن عمر بن الخطاب
رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ليس من ليلة إلا والبحر
يشرق فيها ثلاث مرات يستأذن الله أن ينتضح عليهم ـ أي على العصاة ـ فيكفه
الله بمنه وكرمه "، فلا إله إلا الله ، البحر يتمعر ، ويتمنى إغراق العصاة ،
ويستطيع لكنه مأمور ، ومنا من لا تحرك فيه المعصية ساكنا ، تُنْتَهَك
حرمات الله ، وتُتَجَاوز حدوده ، وتُضَيَّع فرائضه ، ويعادى أولياؤه ، ثم
لا تتمعر الوجوه ، فأين الإيمان يا أهل الإيمان؟ إن في ذلك لآية وكم لله من
آية ، فتأملوا يا أولي الألباب
{دعوة للتأمل للشيخ علي عبد الخالق القرني}